العالم غداة الحرب العالمية الأولى
أثرت الحرب العالمية الأولى على مختلف مناطق وشعوب العالم وتعمقت انعكاساتها بسبب اختلاف مواقف الدول الكبرى حول إقرار السلام بين الدول المتنازعة وتنظيم العلاقات الدولية وحول إعادة تقسيم المستعمرات.
1-آثار الحرب العالمية الأولى على البلدان الرأسمالية
1-1 أصابت الحرب الطاقات البشرية النشيطة في أوروبا وتسببت في تحول الثقل الاقتصادي إلى خارجها
فقدت الدول المتحاربة حوالي 10 ملايين نسمة في المعارك، كما هلك 5 ملايين نسمة نتيجة سوء التغذية والمجاعة المواكبة للحرب. وخلفت المعارك 20 مليونا من المعطوبين وعددا كبيرا من الأرامل واليتامى. وأصابت الطاقات البشرية النشيطة من عمال وفلاحين وشباب، وتسببت في انخفاظ ملحوظ لنسبة المواليد. فتقلص بذلك عدد السكان العاملين، وأصبح الهرمني السكاني شائخا مما أثر سلبا على قوى الانتاج.
ومست العمليات العسكرية بصفة خاصة مناطق البلقان وبولونيا الشرقية وروسيا الأوروبية وبلجيكا وشمال فرنسا. فتعطلت بها مساحات واسعة من الأراضي الفلاحية، بسبب تحولها إلى ساحات للمعارك وتجنيد ملايين من الفلاحين. وأدى إتلاف ملايين الهكتارات(3 ملايين هكتار في فرنسا مثلا). كما استنزفت مناجم عديدة، وتوقفت معامل وتحولت أخرى لتختص في الانتاج الحربي.
وكانت حصيلة كل ذلك تراجع الانتاج الاقتصادي الأوروبي سواء بالنسبة للانتاج الفلاحي الذي انخفض بنسبة 20 في المائة أو الصناعي بسنة 30 في المائة.
وأجبرت تكاليف الحرب ومخلفاتها الحكومات الأوروبية على اللجوء إلى الاقتراض الداخلي والخارجي وإلى سن سياسة مالية تضخيمية. فأدت هذه الوضعية إلى انهيار العملات الأوروبية وارتفاع الأسعار، وبالتالي إلى خفض القدرة الشرائية لدى السكان.
ولم تخلف الحرب دولا نتصرة ودول منهزمة بقدر ما قسمت العالم الرأسمالي إلى ضحايا ومتسفيدين. ففي الوقت الذي تضرت فيه بلدان أوروبا ومستعمراتها وعرفت نزيفا ديمغرايا وتراجعا عاما في الانتاج والمبادلات، استفادت دول غير أوروبية عديدة من بينها على الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكندا والبرازيل والأرجنيتن وأسترالي وزيلاندا الجديدة...
فالولايات المتحدة مثلا لم تعرف اضطرابا ديمغرافيا، وظلت تستقبل آلاف المهاجرين من جميع أنحاء العالم. واستفادت من تزويدها طيلة الحرب لإروبا بالعتاد والمؤن مما أدى ارتفاع انتاجها الفلاحي بنسبة 30% والصناعي بنسبة 40%، وإلى تزايد حجم صادراتها ثلاث مرات.
كما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تزود أوروبا بالقروض بعد أن كانت تقترضمنها. وعوضت بورصة "وول ستريت" بمدينة نيويورك بورصة لندن في احتلال الصدارة النالية داخل العالم الرأسمالي.
كما تراكم لدى الولايات المتحدة حوالي نصف احتياطي الذهب العالمي. وبذلك تعززت الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، وتعير التوازن الرأسمالي القديم لصالحها، مما خلق لدى رجال الأعمال الأمريكيين الشعور بالتفوق على باقي العالم، وأذكى نزعتهم التوسعية.
1-2 انعكست ويلات الحرب على الشعوب الأوروبية وازدادت خيبتها من الأنظمة القائمة
خلفت ظروف العيش المشترك في الخنادق لدى المقاتلين الشعور بالمساواة، والأمل بتحول الوضعية العامة عند توقف العمليات الحربية. لكن الخسائر الحربية انعكستبشكل عميق على الحياة الاجتماعية. وازداد الوضع تفاقما عندما فرضت الحكومات الأوروبية تضحيات جديدة على السكان لإعادة بناء ما خربته المعارك. وأدت السياسة التضخمية المتبعة في أوروبا إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى العيش، واصطدم المجندون بصعوبة إيجاد إمكانية التشغيل، فانتشرت البطالة وعم الفقر أغلبية السكان من عمال وفلاحين.
وفي نفس الوقت نشأت بالمدن الأوروبية فئة اجتماعية ممن استفادوا من مضاربات الحرب، واستعملوا التضحيات المفروضة على السكان لجمع ثروات مالية وعقارية ضخمة.
وبسطت التيارات القومية المتطرفة غداة توقف القتال، هيمنتها الإيديولوجية على جزء هام من الرأي العام الأوروبي، وذلك نتيجة حرص الدول المتحاربة طيلة الحرب على تضخيم أطماع العدو وخطورة نواياه، وعلى حث السكان على تقديم المزيد من التضحيات من أجل حماية الوطن وصيانة حوزته الترابية ولتوسيع رقعته والرفع من عدد مستعمراته. وساهم ذلك في ترسيخ الأفكار المتطرفة لدى أغلبية السكان، وإصابة الدول المنهزمة بالخيبة، والدفع بالحكومات المنتصرة للمطالبة بتعويضات باهضة ضد ألمانيا وحلفائها.
واتجاه معاكس ساهمت ويلات الحرب في إفراز تيارات سليمة وتكوين جمعيات، وطالبت بنزع السلاح ونبذ الاستعراضات العسكرية وحثت على القيام بكل ما من شأنه أن يجعل من الحب العالمة الأولى آخر حرب شهدتها الانسانية.
وانتضرت في الأوساط الشعبية الأوروبية موجة من السخط أمام مرارة الانهزام وتفاهمة الانتصار، وبرزت نزعة تشاؤمية لدى الناس، وانتضر شعور باليأس والحيرة أمام المستقبل. وظهر نفور من الديمقراطيات البورجوازية التي اعتبرتها الفئات المتضررة مسؤولة عن الحرب وممثلة لمصالح المضاربين فقط.
وفي هذه الظروف جسد نجاح الثورة البولشفية في روسيا، بالنسبة للفئات الشعبية، نموذجا يقتدى به للاحتجاج ضد الحرب والاستغلال، وأملا لتحقيق طموحاتها. فشهدت المدن الأوروبية تزايد عدد المنخرطين في النقابات، وتعززت التيارات التشاركية المختلفة. وتمثلت النضالات العمالية في المطالبة بتطبيق نظام 8 ساعات عمل يومية ورفع الأجور وتأميم الشركات الكبرى.
ومن أجل تحقيق هذه المطالب، نظم العمال اضرابات عامة( في فرنسا وبريطانيا والمجر)، ولجأوا إلى احتلال المعامل والضيعات (في إيطاليا). أما ألمانيا فقد عاشت جوا ثوريا بأهم مدنها.
وفي نفس الجو من التوثر، لجأ عدد كبير من المشردين واليائسين إلى المنظمات اليمينية المتطرفة الممولة من الشركات الكبيرة، لمواجهة ما سمي (بالشبح البولشفي).
وتكونت ميليشيات مسلحة لإخماد الحركة الثورية وقمع النضالات العمالية، مما أدى في عدد كم البلدان الأوروبية إلى قيام أنظمة ديكتاتورية مثلما حدث في النمسا والمجر وبولونيا ورومانيا ويوغوسلافيا وإيطاليا والبرتغال...
2- المعاهدات ومحاولات تنظيم السلام
2-1 أقر مؤثمر السلام معاهدات استهدفت تعزيز المصالح الظرفية للدول المنتصرة
أ- احتكرت الدول الكبرى المنتصرة حق تنظيم السلام بأوروبا
انعقد مؤثمر السلام فرساي بمحضر أكثر من ألف مندوب يمثلون حوالي 27 دولة ممن شاركت في الحرب ضمن مجموعة الحلفاء، وفي غياب ممثلي الدول المنهزمة ودون استدعاء دولة روسية البولشفية. وبعد مناقشات طويلة وحادة بين الدول المشاركة في المؤثمر، تركت دراسة القضايا الهامة لأربعة دول فقط، والتي فرضت نفسها كأكبر القوى وقتئد وهي : الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة من لدن رئيسها (ولسن) الذي كان يرغب في أن يلعب دورا تحكيميا في المؤثمر، ويسعى لفتح أسواق العالم أمام الرأسمالية الأمريكية، كما كان حريصا على عدم إضعاف ألمانيا إلى أقصى حد، خوفا من وصول الشيوعيين الألمان إلى الحكم. ثمفرنسا ممثلة من طرف رئيس مجلس الوزراء(جورج كليمانصو)، الذي كان يلعبب هد كيان ألمانيا حتى لاتعود لتهديد فرنسا. ثم ابريطانيا ويمثلها وزريها الأول(لويد جورج) الذي كان يعارض موقف كليمانصو، خوفا من بروز فرنسا كأول قوة في غرب أوروبا. وأخيرا إيطليا ممثلة من طرف وزيرها الأول(أورلندو) الذي تشبت بضرورة وفاء الحلفاء بوعودهم لبلاده كتعويض الخسائر وتحقيق المطالب الترابية.
وكان لهذه الاختلافات ولتضارب المواقف بين الدول الكبرى انعكاس على المعاهدات المبرمة وعلى تنفيد بنودها.
ب- فرضت المعاهدات المبرمة شروطا قاسية على الدول المنهزمة
مثلت معاهدة فيرساي أول معاهدة وقعها الحلفاء على الدول المنهزمة. وقد أجبر مميلو ألمانيا على توقيعها فعرفت المعاهدة(بوثية السلم المفروض)، حيث اضطرت ألمانيا للاعتراف بأنها والدول المنهزمة الأخرى مسؤولة عن قيام الحرب وبالتالي عن خسائرها. وبذلك برر الحلفاء الشروط القاسية المتضمنة في معاهدة فيرساي والمعاهدات الأخرى المفروضة على باقي الدول المنهزمة.
واتهدفت المعاهدات بإعادة رسم الخريطة الأوروبية هد كيان الدول المنهزمة وإضعافها بصفة نهائية. فاعترف الحلفاء بشرعية الحركات القومية لأوروبا الوسطى والشرقية، وساعدوا على خلق كيانات سياسية جديدة تمثلت في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا.
ولم يراع الحلفاء إمكانات ألمانية المالية عند تحديد قيمة التعويضات المالية عن خسائر الحرب، مما جعل تأديتها أمرا مستحيلا.
وفي نفس الوقت رفضت المعاهدات حق الشعوب العربية وغيرها في تقرير المصير والاستقلال، وذلك بتسليم أراضي المشرق العربي والمستعمرات الألمانية لفرنسا وابريطانيا على الخصوص.
وبذلك حملت معاهدة فرساي والمعاهدات الأخرى المفروضة على الدول المنهزمة ما بين 1919 و1920 نذور نزاعات مستقبلية وغذت استمرار التوثر الدولي.
2-2 حاول الحلفاء إنشاء عصبة الأمم ووضع أسس تنظيم جديد للعلاقات الدولية
أ- تكونت عصبة الأمم للسهر مبدئيا على السلم العالمي وتنظيم العلاقات الدولية
تبنى مؤثمر السلام اقتراح الرئيس الأمريكي ولسن بتشكيل هيئة دولية تعمل على حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، وهي التي سميت عصبة الأمم.
وكانت أهم أهداف العصبة المتفق عليها نبذ الدبلوماسية السرية المؤدية للنزاعات الدولية والحروب، وتصفيات الخلافات بين الدول باللجوء إلى التحكيم الدولي والمفاوضات السلمية، والعمل على النزع التدريجي للسلاح (لضمان السلام الجماعي واحترام حقوق واستقلال الشعوب).
وتكونت عصبة الأمم عند تأسيسها من 32 دولة ممن شاركت في (مؤثمر السلام) أو التي نشأت على إثر قرارته مثل بولونيا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.
ومن أجل توفير شروط أكبر للسلام والتخفيف من التوثر في أوروبا، توسعت العصبة لتشمل حوالي 60 دولة بانضمام ألمانيا والدول المنهزمة الأخرى وقبول دولة الاتحاد السوفياتي ودول غير أوروبية أخرى.
واتخذت عصبة الأمم من مدينة جنيف مقرا لها، وتكونت من ثلاثة أجهرزة أساسية :
الجمعية العامة :التي تضم مندوبي كل الدول الأعضاء، وتجتمع بصفة عادية مرة واحدة في السنة. ومهمتها النظر في الترشيحات الجديدة، ومناقشة قضايا السلم الدولي، والتصويرة على القرارات والاقتراحات العامة.
المجلس الأعلى : ويمثل السلطة التنفيدية للعصبة. وتكون في البداية من 9 أعضاء، منهم 4 دائمون (انجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان). ثم انتقل عدد أعضاء المجلس الأعلى إلى 15 عضوا. وكان هذا المجلس يجتمع بصفة عادية ثلاث مرات في السنة، للنظر في النزاعات واتخاذ العقوبات الاقتصادية ضد الدول المعتدية .
الأمانة العامة : تكونت للسهر على جميع الأعمال الادارية تحت إشراف أمين عام تعينه الجمعية العامة.
ولعصبة الأمم هيئات مختصةموازية مثل محمكمة العدل الدولية، المتكونة من 15 قاضيا والمختصة في فصل النزاعات القانونية بين الدول. ومهمتها استشارية فقط. واتخدت من مدينة لاهاي بهلندا مقرا لها.
كما توفرت العصبة على مكتب دولي للشغل اختص بوضع نظام مشترط للعمل، وبدراسة أوضاء العمال واقتراح حلول من أجل تحسينها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.
ب- فشلت عصبة الأمم في الحد من الثوتر الدولي
تبنى مؤثمر السلام اقتراح الرئيس الأمريكي ولسن بتشكيل هيئة دولية تعمل على حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، وهي التي سميت عصبة الأمم.
وكانت أهم أهداف العصبة المتفق عليها نبذ الدبلوماسية السرية المؤدية للنزاعات الدولية والحروب، وتصفيات الخلافات بين الدول باللجوء إلى التحكيم الدولي والمفاوضات السلمية، والعمل على النزع التدريجي للسلاح (لضمان السلام الجماعي واحترام حقوق واستقلال الشعوب).
وتكونت عصبة الأمم عند تأسيسها من 32 دولة ممن شاركت في (مؤثمر السلام) أو التي نشأت على إثر قرارته مثل بولونيا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.
ومن أجل توفير شروط أكبر للسلام والتخفيف من التوثر في أوروبا، توسعت العصبة لتشمل حوالي 60 دولة بانضمام ألمانيا والدول المنهزمة الأخرى وقبول دولة الاتحاد السوفياتي ودول غير أوروبية أخرى.
واتخذت عصبة الأمم من مدينة جنيف مقرا لها، وتكونت من ثلاثة أجهرزة أساسية :
الجمعية العامة :التي تضم مندوبي كل الدول الأعضاء، وتجتمع بصفة عادية مرة واحدة في السنة. ومهمتها النظر في الترشيحات الجديدة، ومناقشة قضايا السلم الدولي، والتصويرة على القرارات والاقتراحات العامة.
المجلس الأعلى : ويمثل السلطة التنفيدية للعصبة. وتكون في البداية من 9 أعضاء، منهم 4 دائمون (انجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان). ثم انتقل عدد أعضاء المجلس الأعلى إلى 15 عضوا. وكان هذا المجلس يجتمع بصفة عادية ثلاث مرات في السنة، للنظر في النزاعات واتخاذ العقوبات الاقتصادية ضد الدول المعتدية .
الأمانة العامة : تكونت للسهر على جميع الأعمال الادارية تحت إشراف أمين عام تعينه الجمعية العامة.
ولعصبة الأمم هيئات مختصةموازية مثل محمكمة العدل الدولية، المتكونة من 15 قاضيا والمختصة في فصل النزاعات القانونية بين الدول. ومهمتها استشارية فقط. واتخدت من مدينة لاهاي بهلندا مقرا لها.
كما توفرت العصبة على مكتب دولي للشغل اختص بوضع نظام مشترط للعمل، وبدراسة أوضاء العمال واقتراح حلول من أجل تحسينها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.
ب- فشلت عصبة الأمم في الحد من الثوتر الدولي
اختلفت الدول المشاركة في العصبة حول أهدافها. واستمر الجدال طويلا بين دعاة التطبيق الحرفي لمعاهدات السلام وهي فرنسا والدول حديثة النشأة، وبين دعاة مراجعة بنودها وهي إيطاليا والدول المنهزمة.
وحاولت عصبة الأمم معالجة القضايا الدولية مثل توزيع المستعمرات الألمانية وأراضي المشرق العربي، وضع الخريطة النهائية لأوروبا، والنظر في النزاعات الدولة ومطالبة ألمانيا بالتعويضات. لكنها اخفقت في جل مهامها لأنها ظلت سجينة المصالح البريطانية والفرنسية.
ولقد سبق لمؤثمر السلام أن وضع المستعمرات الألمانية والأراضي العربية المنتزعة من الإمبراطورية العثمانية تحت تصرف عصبة الأمم التي وزعتها في شكل انتداب لفائدة فرنسا وبريطانيا على الخصوص، فمثلت فكرة الانتداب مظهرا جديدا للاستعمار الأوروبي.
وتطبيقا لبنود الماهدات المفروضة على الدول المنهزمة، اهتمت عصبة الأمم بتصفية المشاكل الترابية العديدة ورسم الحدود النهائية الحرة. واستهدفت في ذلك مبدئيا مراعاة إرادة الشعوب والقوميات الأوروبية في تقرير مصيرها. لكن العصبة لم تفلح في ذلك، نتيجة تضارب المصالح بين الدول المشاركة.
وفي مجال تعزيز السلم الدولي، تمكنت العصبة من حل بعض النزاعات البسيطة وتنظيم لقاءات بين الدول الأعضاء لمناقشة قضايا نزع السلاح. لكنها لم تستطع فرض قراراتها ضد الدول المعتدية حين ظهرت نزاعات هددت السلام في مناطق عديدة من العالم. فبدأت العصبة تعرف تفككا عندما انسحبت منها دول لم تقبل قراراتها مثل اليابان سنة 1933 بعد غزوها للصين، وكذلك ألمانيا في نفس السنة عند خرقها معاهدة فرساي حول التسلح، ثم إيطاليا سنة 1937 بعد احتلالها للحبشة.
فأخفقت الأمم في جل المهام التي أسست من أجلها. ويرجع ذلك إلى كونها لم تضم الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تقبل مشاركة الدول المنهزمة إلا بعد مدة طويلة، كما أنها أبعدت روسيا إلى سنة 1934 عن المشاركة فيها بحجة أنها انسحبت من الحرب وتخلت عن التزاماتها بتوقيعها بصفة انفرادية معاهدة السلم مع ألمانيا، وبحجة أنها رفضت تأدية ديون النظام القيصري السابق اتجاه الحلفاء.
كما أن العصبة لم تتوفر على قوة عسكرية دولية لفرض تنفيذ واحترام قراراتها، الشييء الذي أضعف نفوذها، وجعلها مجرد جهاز يخدم مصالح فرنسا وبريطانيا، ويسهر على تنفيذ معاهدات ما بعد الحرب، وخصوصا ما يتعلق بالتعويضات المفروضة على ألمانيا.
وبذلك استمر التوثر وتضخمت التناقضات الدولية المعلقة التي ساهمت أزمة 1939 الاقتصادية في تفجيرها وفقد الأمل في تحقيق السلم الجماعي. واتجهت الدول من جديد إلى التسابق نحو التسلح للاستعداد كحل غير سلمي للنزاعات القائمة.
3- الحرب العالمية الأولى والمستعمرات
3-1 ساهمت المستعمرات مرغمة في الحرب وتضررت بشريا وماديا
كشفت الحرب العالمية الأولى للدول الأوروبية عن أهمية الطاقات المادية والبشرية التي تتوفر عليها المستعمرات، وذلك عندما أقحمت شعوبها في المعارك القائمة في أوروبا، وسلبيها أجود خيراتها الفلاحية والمعدنية لتعويض النقص الحاصل في الانتاج الأوروبي.
وأحرزت الدول الأوروبية على هذه المشاركة في الحرب بتقديم الوعود بإعادة النظر في وضعية المستعمرات والقيام ببعض الاصلاحات بعد توقف المعارك.
واستطاعت فرنسا مثلا جلب وتجنيد 580.00 ألف رجل من مستعمراتها الافريقية، بينما جدندت ابريطانيا حوالي 600.000 رجل من كندا و450.000 رجل من أستراليا 950.000 رجل من الهند، في حين حصلت ألمانيا على حوالي 50.000 رجل من مستعمراتها.
وشاركت هذه القوات ابتداء من سنة 1914 في جميع العمليات العسكرية وخصوصا في المعارك الأكثر ضراوة. فهلكت أعداد كبيرة منها تم احصاؤها في الغالب بين القتلى الفرنسيين والانجليز والألمان. فقد بلغ مثلا عدد القتلى من أبناء إفريقيا الشمالية 36.000 حسب الاحصاءات الرسمية الفرنسية.
وظلت الأطماع الاستهمارية للدول الأوروبية، طيلة الحرب وبعدها، متناقضة مع الوعود المقدمة. وتبين ذلك بوضوح على إثر انعقاد مؤثمر السلام عند تقاسم المستعمرات الألمانية وأراضي المشرق العربي.
3-2 اشتد استغلال المستعمرات بعد الحرب وعارضته حركات وطنية
عانت شعوب المستعمرات من تشديد الاستغلال الاقتصادي عليها لضمام حاجيات المصانع الأوروبية من المواد الأساسية ولتكوين جيوشها بالمواد الغذائية الضروروية. واتخذ هذا الاستغلال الاستعماري أشكالا متنوعة منها فرض المل الاجباري على السكان للرفع من انتاج المواد الأولية ومطالبة الفلاحين بالمواد الغذائية التي تحتاجها أوروبا. وأدت ظروف الحرب إلى الاسراع بتحويل الانتاج الفلاحي في أجود الأراضي من مواد معيشية إلى مواد تسويقية مما تسبب في انتشر مجاعات خطيرة وأمراض هلك على إثرها حوالي 20 مليون نسمة بالمستعمرات خلال سنوات الحرب.
وعند توقف المعارك في أوروبا، لم تتحسن ظروف المستعمرات بل اشتد استغلالها للمساهمة في إعادة بناء الدول الأوروبية.
وخلفت الوضعية التي عاشتها المستعمرات خلال الحرب،تحولات اجتماعية هامة كان لها الأثر العميق في تطور الأحداث. فقد شهدت البوادي هجرة واسعة للذين ثضرروا من تقلص ظروف العمل والعيش، ومن تسلط المعمرين على أراضيهم، فلجأوا إلى المدن معززين بذلك صفوف الفئات الشعبية الناقمة. كما نمت فئات بورجوازية واقطاعية محلية استفادت من ظروف الحرب واكتسبت ثروات مالية وعقارية.
وأدت الحرب إلى إذكاء الوعي القومي لدى الشعوب المستعمرة، التي تكونت بها حركات مناهضة للاستعمار كالصين والهند الصينية وإفريقيا الشمالية والشرق العربي وغيرها من مناطق الالم الاخرى.
وتعززب هذه الحركات بانضمام العديد من العناصر التي شاركت في الحرب العالمية الولى واكتسبت خبرة سياسية وسكرية، بتعلمها خوض المعارك العصرية واستعمال الأسلحة الحديثة، وتعرفها على حقيقة القوى التجارية في أوروبا.
وبذلك تكون الحرب العالمية الأولى قد غيرت موازين القوى في العالم الرأسمالي، وساهمت في احتدام الصراعات اجتماعية داخل أوروبا، وفرضت تحولات سياسية عميقة. كما فشلت القوى الكبرى من خلق سلام حقيقي ودائم، ولم تستطع إخماد التوثر في أوروبا وخارجها مما ساهم في تأزم الوضعية.